في مركز "مانيلا" التجاري بالقدس الغربية، وفي مساء خريفي منعش، كانت مجموعة من الإسرائيليين والسياح تتمايل على إيقاع موسيقى راقصة منبعثة من مكبرات صوت مثبتة على جدران ممر، مقام في الهواء الطلق، وتصطف على جانبيه المحلات الأنيقة التي تبيع المجوهرات والملابس. كان الجميع منشغلين: فالذين كانوا يتجولون في المركز توقفوا ليشاهدوا الراقصين، أما المراهقون من الفتيان والفتيات فكانوا منشغلين بالمغازلات، في حين انشغل المثقفون وكبار السن بقراءة صحف ومجلات في إحدى المكتبات الشهيرة، أو بارتشاف "الكابوتشينو" في أحد فروع المقاهي العالمية المعروفة. على مسافة خمس دقائق فقط سيراً على الأقدام، كانت تنتصب أعمدة بوابة "يافا" المؤدية للحي القديم من مدينة القدس المكتظ بالسكان. وعلى مسافة عشر دقائق، كانت تقع أحياء القدس الشرقية التي يريد الفلسطينيون أن يجعلوها عاصمة لدولتهم. أما مدن الضفة الغربية التي كان الوصول إليها في وقت ما يستغرق فترة لا تزيد عن عشرين دقيقة بالسيارة، والتي تقع الآن خارج الجدار العازل الإسرائيلي، فكانت تبدو وكأنها تنتمي لكوكب آخر. وخطر على ذهني سؤال: هل يمكن للأوضاع الحالية في إسرائيل، والتي شهِدت جانباً منها، أن تبقى على حالها إذا ما انتهى السلام مع الفلسطينيين؟ في الأمد القصير، نعم! أما في الأمد المتوسط، فأشك في ذلك، بل أعتقد أن التداعيات الطويلة الأمد على إسرائيل، والمنطقة، والغرب، ستكون هائلة. لذلك دعوني هنا أقدم خمسة أسباب، تجعل من المحادثات الإسرائيلية الفلسطينية الحالية حاسمة، وخمسة أسباب أخرى تدفعني للاعتقاد بأن مآلها الفشل. السبب الأول: الديموغرافيا. إذا ما ضمت إسرائيل الضفة الغربية، فإن العرب سوف يشكلون في نهاية المطاف أغلبية السكان الذين يعيشون في "إسرائيل الكبرى". وفي هذه الحالة سوف لن يكون أمام إسرائيل سوى الاختيار بين: أن تظل ديمقراطية، وتمنح الأغلبية العربية حقوق المواطنة الكاملة، وتفقد بذلك شخصيتها اليهودية، أو تحرم الجزء الأكبر من الفلسطينيين من حقوقهم. وسواء اختارت هذا أو ذاك فإن النتيجة المحتمة هي حرب أهلية لا نهاية لها. السبب الثاني: الديموغرافيا أيضاً. حيث سيؤدي استمرار احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة إلى تغذية مشاعر السخط والغضب لدى عرب إسرائيل الذين يشكلون عشرين في المئة من إجمالي سكانها، والذين يحقق المتطرفون الإسلاميون اختراقات مهمة في صفوفهم حالياً، لاسيما وأنهم يعانون من التهميش والإقصاء. واستمرار الاحتلال سوف يجعل هذا الوضع يتفاقم على الدوام. السبب الثالث: إذا ما توقفت عملية السلام، فلن يكون هناك زعماء فلسطينيون معتدلين. فتعثر المباحثات الحالية سيؤدي إلى تقلص الدعم المقدم لعباس ولحركة "فتح"، وهو ما سيمكن حركة "حماس" من انتهاز هذه الفرصة. السبب الرابع: أن احتضار عملية السلام سوف يُسرّع من احتضار النظام العربي القديم. فالزعماء العرب المعتدلون يريدون التوصل لصفقة سلام حتى يتمكنوا من عزل إيران ومواجهة حركات الإسلام السياسي في المنطقة. وإذا لم يحدث ذلك، وغاب الجيل الحالي من الزعماء المعتدلين، فلن يظهر بعدهم جيل معتدل آخر. السبب الخامس: أن النفوذ الأميركي في المنطقة آخذ في الأفول، في الوقت الذي يتنامى فيه النفوذ الإيراني. وفشل عملية السلام التي يرعاها أوباما سوف يؤدي إلى تسريع هذا الاتجاه. ومع ذلك، فإن الأسبوع الذي أمضيته في هذه المنطقة، أقنعني بأن محادثات السلام الحالية لن تصل إلى نتيجة، لخمسة أسباب أيضاً هي: السبب الأول: أن العديد من الإسرائيليين يعتقدون أن الأوضاع الحالية يمكن أن تستمر مع انتشار المستوطنات الإسرائيلية الحصينة، وتوقف العمليات الانتحارية الفلسطينية بسبب الإجراءات الأمنية ونقاط التفتيش، والأسوار العازلة. السبب الثاني: أن الإسرائيليين لم يعودوا مقتنعين بإمكانية السلام مع العرب بعد مرور سبعة عشر عاماً على توقيع اتفاق أوسلو الذي لم يحقق السلام المنشود ولم يَحُل دون وقوع مواجهات وعمليات انتحارية وإطلاق صواريخ من غزة على المدن الإسرائيلية. السبب الثالث: بعد سبعة عشر عاماً من التوسع في المستوطنات لم يعد الفلسطينيون من جانبهم يؤمنون بالسلام هم أيضاً: فقيادتهم ضعيفة ومنقسمة، كما أنهم مشغولون بمواجهة أعباء الحياة التي فرضها عليهم الإسرائيليون بما يجعلهم يؤمنون أنه ليس هناك أي إمكانية لتحقيق السلام. السبب الرابع: أن الفجوة الفاصلة بين الجانبين بشأن القضايا الحيوية، والتي كانت تبدو في وقت من الأوقات قابلة للتجسير، تبدو الآن عصية على التضييق. ومن الأمثلة البارزة في هذا الشأن أن الزعماء الإسرائيليين يصرون في الوقت الراهن على الاحتفاظ بالقدس كلها، بينما يطالب الفلسطينيون، وتحت ضغوط مستمرة من الإسلاميين، بالسيطرة على كافة المواقع المقدسة بالمدينة. السبب الخامس: وهو تضاؤل النفوذ الأميركي وتصاعد النفوذ الإيراني. فبعض الإسرائيليين يعتقدن الآن أنه من الضروري ضرب إيران أولاً، لأنهم عندما يقومون بذلك فإن الفلسطينيين سوف يمتثلون لما يريدونه منهم. وهذا يذكرني في الحقيقة بالفكرة التي سادت أميركا في عهد بوش وهي أن الطريق لسلام القدس يمر عبر بغداد. وإذا ما فشلت عملية السلام، فإن أكثر من سيهلل لذلك هم الإيرانيون وحلفاؤهم الذين سوف يتغذون على هذا الفشل. في الوقت الحالي يمكن للرقص في مركز مانيلا التجاري بالقدس أن يستمر، أما في المستقبل فسوف تأتي الدموع... هذا ما أخشاه! ترودي روبن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتبة ومحللة سياسية أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"